خارطة طريق نحو سوريا ديمقراطية- رؤية للانتقال السياسي والتحديات

في أعقاب التغييرات الدراماتيكية التي شهدتها سوريا، وتحديدًا عقب سقوط نظام بشار الأسد في الثامن من شهر ديسمبر/ كانون الأول من عام 2024، نتيجة لمعركة "ردع العدوان"، دخلت البلاد حقبة جديدة ومحورية. هذا الحدث التاريخي فتح الباب أمام مرحلة انتقالية طموحة، تهدف إلى إعادة بناء النظام السياسي السوري من خلال التأسيس على مبادئ التعددية السياسية الحقيقية، وتعزيز المشاركة الشعبية الفعالة، وضمان احترام حقوق الإنسان الأساسية.
وقد سبقت هذه المرحلة الهامة، إعلانات متتابعة بدأت مع إعلان "إدارة العمليات العسكرية" في التاسع من ديسمبر/ كانون الأول 2024 عن تشكيل حكومة مؤقتة لتسيير الأعمال، كخطوة أولية حاسمة. تبع ذلك اتفاق تاريخي في الرابع والعشرين من ديسمبر/ كانون الأول على حل جميع الفصائل العسكرية ودمجها تحت قيادة موحدة ضمن وزارة الدفاع، وصولًا إلى الإعلان الرسمي عن "انتصار الثورة" في الثلاثين من يناير/ كانون الثاني 2025، وتعيين السيد أحمد الشرع رئيسًا مؤقتًا لسوريا، ليكون رمزًا للمرحلة الانتقالية.
هذه التطورات شكلت منعطفًا حاسمًا ومحوريًا في تاريخ البلاد، ليس فقط بسبب إنهاء عقود طويلة من الحكم الاستبدادي الذي جثم على صدر سوريا لأكثر من نصف قرن، بل أيضًا لما تحمله من آمال واعدة وفرص سانحة لتحقيق انتقال سياسي ديمقراطي حقيقي. هذا الانتقال يهدف إلى وضع حد نهائي لنظام الحكم الأسدي المركزي والإقصائي، والعمل على تأسيس نظام تعددي يكفل المشاركة السياسية لجميع أطياف الشعب السوري دون أي تمييز أو إقصاء.
على الرغم من هذه الآفاق المشرقة، تواجه المرحلة الانتقالية جملة من التحديات المعقدة والمتشابكة، والتي تتطلب معالجة دقيقة وشاملة. من بين هذه التحديات، يبرز ضعف مؤسسات الدولة الذي يعيق قدرتها على القيام بواجباتها، والانقسام المجتمعي العميق الذي يتطلب جهودًا حثيثة لرأب الصدع، وتدخلات القوى الخارجية التي تسعى لفرض أجنداتها الخاصة، بالإضافة إلى الأزمة الاقتصادية والاجتماعية الخانقة التي خلفتها سنوات النزاع المريرة والطويلة.
في هذا السياق، قدمت الشبكة السورية لحقوق الإنسان رؤية شاملة تهدف إلى تجاوز هذه التحديات الجسيمة من خلال وضع خارطة طريق متكاملة للانتقال السياسي. تبدأ هذه الخارطة بتشكيل هيئة حكم انتقالية تمثل جميع أطياف المجتمع، مرورًا بصياغة إعلان دستوري مؤقت يحدد صلاحيات المؤسسات الانتقالية، وتشكيل حكومة انتقالية فعالة قادرة على إدارة شؤون البلاد، وصولًا إلى صياغة دستور دائم يرسخ مبادئ الديمقراطية والعدالة، وإجراء انتخابات حرة ونزيهة تؤسس لنظام حكم مستقر وديمقراطي يحقق تطلعات الشعب السوري.
كما تؤكد الرؤية على ضرورة إنشاء هيئة وطنية للعدالة الانتقالية، مهمتها معالجة انتهاكات الماضي وكشف الحقائق، وتحقيق المصالحة الوطنية الشاملة التي تعتبر أساسًا لبناء مستقبل مستقر ومزدهر.
يسعى هذا المقال إلى تحليل هذه الرؤية بعمق، من خلال تقديم إطار تفصيلي يوضح الخطوات العملية والإجرائية الواجب اتخاذها لضمان انتقال سياسي ناجح يحقق التعددية السياسية الحقيقية، والعدالة الاجتماعية، والاستقرار الدائم، ويحمي سوريا من مخاطر العودة إلى الاستبداد أو الانزلاق إلى صراعات داخلية جديدة. كما يسعى المقال إلى إبراز الدور المحوري والهام لكل من القوى السياسية الوطنية، وهيئات المجتمع المدني الفاعلة، والدعم الدولي المسؤول، في إنجاح هذه المرحلة المفصلية والحساسة من تاريخ سوريا.
من الشرعية الثورية نحو التعددية السياسية
تجسد الشرعية الثورية الإطار السياسي والقانوني الذي تستند إليه القوى التي نجحت في الإطاحة بالنظام القديم، وتنبثق هذه الشرعية أساسًا من القطيعة الجذرية والكاملة مع نظام الحكم السابق.
وفي الحالة السورية، استمدت المرحلة الانتقالية شرعيتها الثورية من إسقاط نظام الأسد في شهر ديسمبر/ كانون الأول من عام 2024، وهو ما منح القيادة الجديدة تفويضًا شعبيًا مؤقتًا لإدارة شؤون البلاد في هذه الفترة بالغة الأهمية والحساسية.
وعلى الرغم من الأهمية القصوى لهذه الشرعية في تثبيت دعائم الحكم الانتقالي والحيلولة دون الفوضى السياسية، فإن استمرارها لفترة طويلة دون الانتقال إلى نظام تعددي حقيقي، يحمل في طياته مخاطر جسيمة وتحديات كبيرة.
من بين أبرز هذه المخاطر، تمركز السلطة في أيدي عدد محدود من الفاعلين السياسيين، مما قد يؤدي إلى إعادة إنتاج أنماط الحكم الاستبدادي القديم، وتقويض الأسس التي قامت عليها الثورة السورية.
1 – تشكيل هيئة للحكم
تعتبر عملية تشكيل هيئة الحكم خطوة محورية وأساسية لضمان الانتقال السياسي المنظم والسلس من الشرعية الثورية إلى نظام سياسي تعددي شامل في سوريا. تبرز أهمية هذه الهيئة من خلال دورها الحيوي في تعزيز التشاركية السياسية الفعالة والاستقرار المجتمعي المستدام خلال المرحلة الانتقالية.
إن وجود هيئة حكم تضم في صفوفها مختلف القوى السياسية والاجتماعية الفاعلة يمثل ضمانة أساسية لإشراك جميع مكونات الشعب السوري في العملية السياسية، مما يعزز الشعور بالثقة في هذه العملية ويمنع احتكار السلطة من قبل فئة معينة، ويقلل بشكل كبير من احتمالات ظهور صراعات جديدة تهدد الاستقرار.
ولضمان نجاح هذه الهيئة وتحقيق فعاليتها المنشودة، ينبغي أن يتم اختيار أعضائها وفق معايير واضحة ومحددة بدقة، من أبرزها ضمان التمثيل الشامل والمتوازن لمختلف فئات المجتمع السوري، بما يشمل التنوع السياسي، والديني، والعرقي، والمناطقي، وذلك بهدف منع التهميش أو الإقصاء لأي مجموعة أو فئة كانت.
كما يجب أن تتوفر لدى أعضاء الهيئة معايير الكفاءة المهنية والخبرة العملية الواسعة في مجالات الحوكمة الرشيدة، والقانون، والإدارة، مع ضرورة الالتزام بالنزاهة الشخصية والابتعاد عن كل من تورط في قضايا فساد أو انتهاكات لحقوق الإنسان.
ولتحقيق قبول شعبي واسع للهيئة، يجب اختيار شخصيات تتمتع بمصداقية عالية وتستند إلى الشرعية الثورية، ولديها التزام راسخ بالتعددية واحترام حقوق الإنسان وسيادة القانون.
أما بالنسبة لآليات اختيار أعضاء هيئة الحكم، فينبغي اعتماد أسلوب التوافق الوطني الشامل، من خلال إجراء مشاورات واسعة ومعمقة بين القوى السياسية المختلفة ومنظمات المجتمع المدني وممثلي الفئات المجتمعية المتنوعة، للوصول إلى قائمة من الأعضاء المقبولين على نطاق واسع.
ويمكن الاستعانة بلجان مستقلة ومحايدة تتولى مهمة التحقق من استيفاء المرشحين للمعايير المتفق عليها، مما يعزز شفافية العملية ومصداقيتها أمام الرأي العام.
أما على صعيد هيكلة هيئة الحكم، فمن الأهمية بمكان توزيع الصلاحيات بشكل متوازن وواضح بين السلطات الثلاث: التنفيذية، والتشريعية، والقضائية. وفي هذا السياق، تتولى السلطة التنفيذية إدارة شؤون المرحلة الانتقالية وتنفيذ السياسات المتوافق عليها، بينما تمارس السلطة التشريعية دورها في إصدار التشريعات اللازمة، ومراقبة أداء الحكومة، وتضمن السلطة القضائية استقلالها الكامل في مراقبة تطبيق القوانين وحماية الحقوق والحريات الأساسية للمواطنين، بما يضع أساسًا قانونيًا متينًا لعملية التحول الديمقراطي.
وأخيرًا، فإن الدور الدولي في دعم هيئة الحكم يجب أن يكون استشاريًا وتقنيًا فقط، بحيث يقتصر على تقديم المساعدة الفنية والاستشارات اللازمة دون التدخل في استقلالية القرار الوطني السوري.
إذ يمكن للجهات الدولية تقديم الخبرات التقنية المتخصصة، والتدريب اللازم، والوساطة في حال نشوب خلافات داخلية، مع التشديد على ضرورة احترام السيادة الوطنية لسوريا وعدم فرض حلول خارجية. يضمن هذا النهج تحقيق التوازن الدقيق بين الاستفادة من الدعم الدولي وبين الحفاظ على استقلالية العملية الانتقالية ومصداقيتها أمام الشعب السوري.
2 – إصدار إعلان دستوري مؤقت
في ظل الأوضاع الانتقالية المعقدة التي تعقب سقوط الأنظمة الاستبدادية، يوفر الإعلان الدستوري إطارًا قانونيًا واضحًا ومؤقتًا يحدد قواعد إدارة شؤون الدولة وصلاحيات المؤسسات الانتقالية، مما يساعد في تقليل مخاطر الفوضى السياسية وتفادي حدوث فراغ دستوري محتمل.
يتطلب إعداد هذا الإعلان الدستوري مشاركة واسعة وفاعلة من مختلف الأطراف الوطنية المعنية. وتبدأ العملية بتشكيل اللجنة التحضيرية ولجنة الصياغة، والتي يفضل أن تضم قانونيين متخصصين في القانون الدستوري، وممثلين عن القوى السياسية الفاعلة، إضافةً إلى ممثلين عن المجتمع المدني السوري لضمان شمولية تمثيل مختلف أطياف المجتمع.
تعمل هذه اللجنة على تحديد القضايا الرئيسة التي يتوجب تضمينها في الإعلان الدستوري، وتصيغ المسودة الأولية بما يعكس التوافق الوطني العام.
تقوم هيئة الحكم الانتقالية بدور محوري في الإشراف على هذه العملية، إذ تعمل على مراجعة مسودات الإعلان وتتبناها رسميًا بعد ضمان توافق وطني واسع حول بنودها. ويجب على الهيئة ضمان الشفافية الكاملة في جميع مراحل إعداد الإعلان الدستوري، وصولًا إلى مرحلة المصادقة النهائية عليه.
إلى جانب الأطراف السياسية والمؤسسية، تعد مشاركة منظمات المجتمع المدني بالغة الأهمية. إذ تقوم هذه المنظمات بتقديم المقترحات التي تعكس تطلعات المواطنين، وتحرص على حماية الحقوق الأساسية وضمان تطبيق معايير العدالة الانتقالية.
كما تشرف منظمات المجتمع المدني على عقد جلسات تشاورية عامة لمناقشة بنود الإعلان وإتاحة الفرصة لأوسع مشاركة مجتمعية ممكنة.
أما على المستوى الدولي، فيقتصر دوره على تقديم الدعم الفني والاستشاري فقط، مع التأكيد على عدم تدخله في القرار السيادي السوري.
يمكن أن تقدم المنظمات الدولية مساعدات تقنية وقانونية تضمن توافق بنود الإعلان الدستوري مع المعايير الدولية لحقوق الإنسان والحريات الأساسية، بالإضافة إلى توفير خبرات قانونية للمساعدة في عملية الصياغة والمشاورات، دون أي شكل من أشكال التدخل أو فرض أجندات خارجية.
ويجب أن يتضمن الإعلان الدستوري عددًا من المكونات الأساسية، من أبرزها: المبادئ العامة للحكم التي تشمل السيادة الشعبية، وسيادة القانون، والتعددية السياسية، والوحدة الوطنية، والمصالحة الوطنية.
كما يتضمن هيكلًا واضحًا للحكم الانتقالي يحدد صلاحيات السلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية، إضافةً إلى التأكيد على آليات واضحة ومستقلة للعدالة الانتقالية تهدف إلى تحقيق المحاسبة والمصالحة.
من الضروري أيضًا أن ينص الإعلان على إصلاح المؤسسات الأمنية وإخضاعها للرقابة المدنية بهدف تعزيز الاستقرار، ووضع جدول زمني محدد وآليات واضحة لتنظيم وإجراء الانتخابات العامة، بما يضمن انتقالًا سلسًا نحو نظام حكم ديمقراطي ومستقر.
3 – تشكيل الحكومة الانتقالية
تعد عملية تشكيل الحكومة الانتقالية إحدى الخطوات الأكثر أهمية ودقة خلال المرحلة الانتقالية في سوريا، إذ تعكس هذه العملية مدى جدية هيئة الحكم في تحقيق التعددية السياسية وترسيخ الاستقرار.
يقع على عاتق رئيس المرحلة الانتقالية، السيد أحمد الشرع، بالتشاور الوثيق مع هيئة الحكم الانتقالية، مسؤولية اختيار أعضاء هذه الحكومة، حيث يقوم الرئيس باقتراح قائمة مرشحين لتولي المناصب الوزارية، وتعرض هذه القائمة على هيئة الحكم لمراجعتها والموافقة عليها أو طلب تعديلها إذا اقتضت الضرورة، بما يضمن توافقًا وطنيًا واسع النطاق.
ولضمان نجاح الحكومة الانتقالية في القيام بدورها المحوري في إدارة شؤون البلاد خلال هذه المرحلة الحساسة، لا بد من الالتزام بمعايير واضحة وموضوعية عند اختيار الوزراء.
تتمثل هذه المعايير في المقام الأول في الكفاءة المهنية والعملية، إذ يتعين اختيار شخصيات تمتلك الخبرة اللازمة لإدارة ملفات وزارية دقيقة مثل الأمن، والقضاء، والاقتصاد، والتعليم، والصحة. كما يشترط في أعضاء الحكومة الانتقالية التمتع بالنزاهة وعدم التورط في أي من ملفات الفساد أو انتهاكات حقوق الإنسان.
وإلى جانب ذلك، يجب أن تعكس الحكومة توازنًا تمثيليًا حقيقيًا لجميع مكونات المجتمع السوري من الناحية الجغرافية، والسياسية، والمجتمعية، مع الحرص على تجنب عسكرة الحكومة من خلال عدم تعيين قادة عسكريين أو شخصيات مثيرة للجدل في مناصب وزارية مدنية حساسة.
أما فيما يتعلق بأولويات عمل الحكومة الانتقالية، فتأتي مسألة تحقيق الأمن والاستقرار في صدارة هذه الأولويات، وهو ما يتطلب العمل بشكل عاجل على إعادة هيكلة المؤسسات الأمنية والعسكرية، وإخضاعها لرقابة مدنية صارمة، ومنع استخدام هذه المؤسسات لأغراض سياسية أو حزبية.
كما يقع على عاتق الحكومة ضمان تأمين الخدمات الأساسية للمواطنين، والتي تشمل الوصول إلى الغذاء، والمياه النظيفة، والرعاية الصحية، بالإضافة إلى إعادة تأهيل البنية التحتية في القطاعات الحيوية مثل التعليم والصحة والنقل.
كذلك يجب أن تركز الحكومة الانتقالية على إدارة الملف الاقتصادي والتصدي للأزمة الإنسانية والاجتماعية الناتجة عن سنوات النزاع الطويلة.
ويتطلب ذلك تنفيذ سياسات اقتصادية عاجلة وقصيرة الأجل لتجنب الانهيار الاقتصادي، مع العمل على جذب الدعم الدولي والاستثمارات الخارجية اللازمة لتحقيق التعافي الاقتصادي.
كما يجب أن تشمل هذه السياسات برامج دعم إنسانية وإغاثية عاجلة تستهدف المجتمعات الأكثر تضررًا من النزاع، مع وضع آليات واضحة للمساءلة والشفافية لضمان إدارة الموارد بشكل فعال وعادل خلال هذه المرحلة الانتقالية الحرجة.
4 – صياغة الدستور الدائم
تشكل مرحلة صياغة الدستور الدائم إحدى الخطوات الحاسمة في العملية الانتقالية في سوريا، إذ تنهي الوضع القانوني المؤقت الذي ينظمه الإعلان الدستوري، وتؤسس لإطار دائم ومستقر للحكم يرسخ قواعد الديمقراطية والتعددية السياسية.
فالدستور الدائم لا يقتصر على كونه مجرد وثيقة قانونية، بل هو ركيزة الشرعية السياسية للدولة، ويحدد المبادئ العليا والقيم الأساسية التي يرتكز عليها نظام الحكم الجديد، كما يرسم معالم الحقوق والحريات الأساسية، وآليات ضمان سيادة القانون وحماية حقوق المواطنين.
تبدأ عملية صياغة الدستور الدائم من خلال تشكيل لجنة تأسيسية تتمتع بشرعية واسعة، وتكون مسؤولة بشكل رئيس عن إعداد مسودة الدستور.
ويمكن أن يتم اختيار أعضاء اللجنة عبر واحدة من ثلاث آليات: إما بانتخاب مباشر من الشعب (خيار مثالي، لكنه قد يكون صعب التطبيق في الظروف الانتقالية)، أو تعيين مباشر من قبل هيئة الحكم الانتقالية بالتشاور مع القوى السياسية والمجتمع المدني، أو مزيج من الآليتين لتحقيق التوازن بين الشرعية الشعبية والكفاءة العملية.
ويتوجب أن تعكس تركيبة اللجنة التأسيسية التنوع السوري بشكل واضح، بما يشمل تمثيل خبراء في القانون الدستوري، وممثلي الأحزاب السياسية، ومنظمات المجتمع المدني، والنساء، والشباب، إلى جانب ممثلين عن المناطق المتضررة من النزاع، لضمان شمولية وتمثيل عادل لجميع الفئات الاجتماعية والسياسية.
تتولى اللجنة التأسيسية مهمة صياغة مسودة الدستور عبر عملية تشاركية واسعة تستند إلى المشاورات الوطنية المفتوحة، ما يعزز شرعية الدستور ويضمن تعبيره الحقيقي عن تطلعات الشعب السوري.
وتتمثل هذه المشاورات في تنظيم جلسات حوارية موسعة في مختلف المناطق، وإجراء استبانات واستطلاعات رأي لتمكين المواطنين من التعبير عن آرائهم ومقترحاتهم حول القضايا الأساسية التي يجب أن يتناولها الدستور.
أما من حيث المحتويات التي ينبغي تضمينها في الدستور، فمن الضروري تحديد شكل نظام الحكم (رئاسي أو برلماني أو مختلط)، مع تحديد واضح لعلاقة السلطات بعضها ببعض، وآليات الفصل والتوازن بينها لمنع تركز السلطة ومنع الاستبداد.
كما ينبغي للدستور أن يضمن الحقوق والحريات الأساسية للمواطنين بشكل واضح ودقيق، بما في ذلك حرية التعبير، والدين، والتجمع، وحقوق المرأة، وحقوق الأقليات، وضمان المساواة أمام القانون لجميع السوريين.
ومن المهم أيضًا أن يكرس الدستور الجديد مبدأ اللامركزية الإدارية، بما يتيح صلاحيات أوسع للمحافظات والإدارات المحلية في إطار وحدة الدولة السورية.
بعد الانتهاء من صياغة المسودة الدستورية، تتم مراجعتها بشكل علني من قبل المجلس التشريعي الانتقالي، مع فتح المجال لنقاش وطني موسع حول محتواها.
وعقب هذه المرحلة، تأتي مرحلة المصادقة النهائية، والتي يفضل أن تتم عبر الاستفتاء الشعبي لضمان أعلى مستوى من الشرعية الشعبية للدستور.
وفي حال كانت الظروف الأمنية أو اللوجيستية لا تسمح بإجراء استفتاء عام، يمكن اعتماد المسودة من قبل المجلس التشريعي الانتقالي، كخيار بديل ومؤقت، لضمان عدم تعطيل العملية السياسية والانتقال الديمقراطي.
5 – الانتخابات البرلمانية والرئاسية
تشكل الانتخابات البرلمانية والرئاسية المرحلة الأخيرة في خارطة الطريق للانتقال السياسي في سوريا، إذ تمثل هذه الانتخابات آلية جوهرية لانتقال السلطة بشكل ديمقراطي من الحكومة الانتقالية إلى حكومة شرعية منتخبة تعبر عن إرادة السوريين بشكل حر ونزيه. ولضمان نجاح هذه المرحلة الحساسة من عملية الانتقال السياسي، يتوجب توفير مجموعة من الشروط والمعايير الأساسية.
يأتي في مقدمة هذه الشروط تحقيق مستوى ملائم من الأمن والاستقرار في عموم البلاد، وذلك لضمان عدم تعرض الناخبين والمرشحين لأي شكل من أشكال العنف أو التهديد أو الإكراه، مع تأمين مراكز الاقتراع في جميع المناطق السورية، بما فيها المناطق التي شهدت نزاعات مسلحة، وكذلك توفير ظروف آمنة لعودة اللاجئين والنازحين وتمكينهم من ممارسة حقهم في التصويت.
كما يستلزم نجاح الانتخابات وجود إطار قانوني ومؤسسي واضح، يتضمن اعتماد قانون انتخابي عادل ومنصف وفق المعايير الدولية، يحدد آليات الترشح والتصويت وضوابط التمويل الانتخابي لضمان نزاهة المنافسة.
ويرافق ذلك إنشاء لجنة انتخابية مستقلة تتمتع بصلاحيات كاملة، تكلف بتنظيم الانتخابات والإشراف عليها بشكل محايد، وتتألف من قضاة وخبراء قانونيين وممثلين عن المجتمع المدني، إلى جانب لجان مختصة في التعامل مع الطعون الانتخابية والشكاوى التي قد تظهر خلال أو بعد العملية الانتخابية.
من جهة أخرى، يعد ضمان المشاركة الشاملة والواسعة شرطًا محوريًا لنجاح الانتخابات. ويشمل ذلك توفير الظروف الملائمة لمشاركة جميع السوريين داخل وخارج البلاد، مع إيلاء اهتمام خاص بضمان مشاركة النازحين واللاجئين عبر إقامة مراكز انتخابية خاصة في بلدان اللجوء.
كما يتطلب ضمان المشاركة تمثيلًا عادلًا ومنصفًا للأقليات والفئات المهمشة، بمن في ذلك النساء والشباب، من خلال سياسات تشجع وتسهل مشاركتهم، ما يسهم في تعزيز الشرعية السياسية والتمثيل الديمقراطي الحقيقي.
وعلى المستوى التنظيمي، ينبغي تشكيل لجنة انتخابية مستقلة تعمل على تسجيل الناخبين وفق آليات دقيقة تضمن شمولية القوائم الانتخابية، وتدير العملية الانتخابية كاملة بدءًا من مرحلة الترشيح، مرورًا بالحملات الانتخابية، وانتهاءً بعمليات الفرز وإعلان النتائج.
ويجب أن تتمتع هذه اللجنة باستقلالية كاملة في اتخاذ قراراتها لمنع أي تدخل أو تأثير سياسي أو حزبي، مع إتاحة الفرصة للمرشحين لاستخدام وسائل الإعلام الرسمية والخاصة بشكل عادل ومتساوٍ، وإجراء مناظرات علنية تتيح للجمهور الاطلاع على برامج المرشحين بوضوح وشفافية.
وفيما يتعلق بالرقابة الدولية، فإن دورها يجب أن يكون استشاريًا ورقابيًا دون أن يمس السيادة الوطنية السورية. ومن المهم أن تقتصر مهمة الجهات الدولية، مثل الأمم المتحدة أو الاتحاد الأوروبي، على إرسال مراقبين دوليين لمتابعة ومراقبة الانتخابات، وتقديم الدعم الفني والتقني في مجالات التدريب وتأمين التصويت، دون التدخل في اختيار المرشحين أو فرض أجندات سياسية معينة.
يساهم هذا الدور المحدود في تعزيز مصداقية الانتخابات وضمان نزاهتها دون الإخلال باستقلالية القرار السوري.
وبذلك، فإن الالتزام بهذه الشروط والإجراءات كفيل بضمان انتخابات برلمانية ورئاسية نزيهة، تقود إلى نظام سياسي تعددي ديمقراطي ومستقر، يعبر عن إرادة الشعب السوري، ويشكل أساسًا متينًا لبناء مستقبل الدولة السورية الجديدة.
خاتمة
إن تنفيذ الخطوات الواردة في هذه الرؤية يمثل ضرورة ملحة لضمان نجاح عملية الانتقال السياسي في سوريا، وتحقيق انتقال مستدام نحو الديمقراطية والتعددية السياسية.
فالتزام هيئة الحكم الانتقالي والحكومة المؤقتة بمعايير التشاركية، والشفافية، والكفاءة، واستقلال القضاء، وإصدار إعلان دستوري واضح، وصياغة دستور دائم يعكس تطلعات جميع السوريين، وإجراء انتخابات حرة ونزيهة، هي شروط جوهرية لتحقيق الاستقرار السياسي، ومنع عودة الاستبداد أو الانزلاق إلى صراعات جديدة.
وفي هذا السياق، يظل التعاون البناء بين الفاعلين المحليين والدوليين عاملًا حاسمًا في إنجاح العملية الانتقالية. إذ إن التوافق الوطني، والدعم التقني والاستشاري من المجتمع الدولي مع الحفاظ الكامل على السيادة الوطنية، وتمكين المجتمع المدني السوري وتعزيز دوره الرقابي والتوعوي، كل ذلك يخلق بيئة سياسية واجتماعية ملائمة لإعادة بناء الدولة السورية على أسس من التعددية والديمقراطية واحترام حقوق الإنسان.
إن مسؤولية نجاح الانتقال السياسي في سوريا تقع على عاتق الجميع، محليًا ودوليًا، من أجل مستقبل مستدام يضمن حقوق كافة السوريين دون تمييز أو إقصاء.